فصل: تفسير الآيات (98- 103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (98- 103):

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)}
قوله: {قُلْ ياأهل الكتاب} خطاب لليهود، والنصارى، والاستفهام في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ} للإنكار، والتوبيخ. وقوله: {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} جملة حالية مؤكدة للتوبيخ، والإنكار، وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في شهيد يفيد مزيد التشديد، والتهويل، والاستفهام في قوله: {لِمَ تَصُدُّونَ} يفيد ما أفاده الاستفهام الأول. وقرأ الحسن: {تَصُدُّونَ} من أصد، وهما لغتان: مثل صد اللحم، وأصد: إذا تغير، وأنتن، وسبيل الله دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو دين الإسلام، والعوج: الميل، والزيغ، يقال عوج بالكسر إذا كان في الدين، والقول، والعمل، وبالفتح في الأجسام كالجدار، ونحوه، روي ذلك عن أبي عبيدة، وغيره، ومحل قوله: {تبغونها عوجاً} النصب على الحال. والمعنى: تطلبون لها اعوجاجاً، وميلاً عن القصد، والاستقامة بإبهامكم على الناس بأنها كذلك تثقيفاً لتحريفكم، وتقويماً لدعاويكم الباطلة. وقوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} جملة حالية، أي: كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام، والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره، كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم، قيل: إن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، وأن فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقيل: المراد: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} أي: عقلاء، وقيل: المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم؟ ثم توعدهم سبحانه بقوله: {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} ثم خاطب سبحانه المؤمنين محذراً لهم عن طاعة اليهود، والنصارى مبيناً لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بعد إيمانهم كافرين، وسيأتي بيان سبب نزول الآية،
والاستفهام في قوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} للإنكار، أي: من أين يأتيكم ذلك، ولديكم ما يمنع منه ويقطع أثره، وهو: تلاوة آيات الله عليكم، وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم؟ ومحل قوله: {وَأَنتُمْ} وما بعده النصب على الحال. ثم أرشدهم إلى الاعتصام بالله ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم الذي: هو الإسلام، وفي وصف الصراط بالاستقامة ردّ على ما ادَّعوه من العوج. قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم، وهم يشاهدونه، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة؛ لأن آثاره، وعلامته، والقرآن الذي أوتيه فينا، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، وإن لم نشاهده. انتهى. ومعنى الاعتصام بالله التمسك بدينه، وطاعته، وقيل: بالقرآن، يقال: اعتصم به، واستعصم، وتمسك، واستمسك: إذا امتنع به من غيره، وعصمه الطعام: منع الجوع منه.
قوله: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} أي: التقوى التي تحق له، وهي: أن لا يترك العبد شيئاً مما يلزمه فعله، ولا يفعل شيئاً مما يلزمه تركه، ويبذل في ذلك جهده، ومستطاعه.
قال القرطبي: ذكر المفسرون أنها لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من يقوى على هذا؟ وشق عليهم ذلك، فأنزل الله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] فنسخت هذه الآية. روي ذلك عن قتادة، والربيع، وابن زيد. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا. وقيل: إن قوله: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} مبين بقوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} والمعنى: اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم. قال: وهذا أصوب؛ لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع، والجمع ممكن، فهو أولى. قوله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي: لا تكونن على حال سوى حال الإسلام، فالاستثناء مفرغ، ومحل الجملة: أعني: قوله: {وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} النصب على الحال، وقد تقدم في البقرة تفسير مثل هذه الآية. قوله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً} الحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية، وهو: إما تمثيل، أو استعارة. أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام، أو بالقرآن، ونهاهم عن التفرق الناشيء عن الاختلاف في الدين، ثم أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم، وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخواناً وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر، فأنقذهم الله من هذه الحفرة بالإسلام. ومعنى قوله: {أصبحتم} صرتم، وليس المراد به معناه الأصلي: وهو الدخول في وقت الصباح، وشفا كل شيء: حرفه، وكذلك شفيره، وأشفى على الشيء: أشرف عليه، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية. وقوله: {قَالَ كذلك} إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي: مثل ذلك البيان البليغ يبين الله لكم. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى، والازدياد منه.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال: مرّ شاس بن قيس- وكان شيخاً قد عسى في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس، والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم، وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام. بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بعاث، وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار- وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس، والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج،- ففعل فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم، والله رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعاً، وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح موعدكم الظاهرة- والظاهرة: الحرة- فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: «يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم؟ بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟» فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس، وما صنع {قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب لَمَن تَكْفُرُونَ بئيات الله والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} إلى قوله: {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وأنزل في أوس بن قيظي، وجبار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إلى قوله: {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقد رويت هذه القصة مختصرة، ومطولة من طرق.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال: كانوا إذا سألهم أحد تجدون محمداً؟ قالوا: لا، قال: فصدوا الناس عنه، وبغوا محمداً عوجاً هلاكاً.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة: لم تصدون عن الإسلام، وعن نبي الله من آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرءون من كتاب الله أن محمداً رسول الله، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره، ولا يجزي إلا به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، والإنجيل.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله: {وَمَن يَعْتَصِم بالله} قال: يؤمن به.
وأخرجوا عن أبي العالية قال: الاعتصام: الثقة بالله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن مسعود في قوله: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} قال: أن يطاع، فلا يعصى، ويذكر، فلا ينسى، ويشكر، فلا يكفر.
وقد رواه الحاكم وصححه، وابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً بدون قوله: ويشكر، فلا يكفر.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: حقّ تقاته أن يطاع، فلا يعصى، فلن تستطيعوا، فأنزل الله بعد ذلك: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] وأخرج عبد بن حميد، عنه نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن مسعود نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {حَقَّ تُقَاتِهِ} قال: لم تنسخ، ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط، ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله} قال: حبل الله القرآن.
وقد وردت أحاديث أن كتاب الله هو حبل الله الممدود.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: {واعتصموا بحبل الله} بالإخلاص لله وحده.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن قال: بطاعته.
وأخرج أيضاً، عن قتادة قال: بعهده، وأمره.
وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد قال: بالإسلام.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن جريج في قوله: {إِذْ كُنتُم أَعْدَاء} قال: ما كان بين الأوس، والخزرج في شأن عائشة.
وأخرج ابن إسحاق قال: كانت الحرب بين الأوس، والخزرج عشرين ومائة سنة، حتى قام الإسلام، فأطفأ الله ذلك، وألف بينهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في قوله: {وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار} يقول: كنتم على طرف النار، من مات منكم، وقع في النار، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، واستنقذكم به من تلك الحفرة.

.تفسير الآيات (104- 109):

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)}
قوله: {وَلْتَكُن} قرأه الجمهور بإسكان اللام، وقرئ بكسر اللام على الأصل، و{من} في قوله: {مّنكُمْ} للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس.
ورجح الأوّل بأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من فروض الكفايات يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون ما يأمرون به معروفاً، وينهون عنه منكراً. قال القرطبي: الأوّل أصح، فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله سبحانه بقوله: {الذين إِنْ مكناهم في الارض} الآية [الحج: 41]. وقرأ ابن الزبير: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم} قال أبو بكر بن الأنباري: وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين، فألحقه بألفاظ القرآن.
وقد روى أن عثمان قرأها كذلك، ولكن لم يكتبها في مصحفه، فدل على أنها ليست بقرآن. وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ووجوبه ثابت بالكتاب، والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها. وقوله: {يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} من باب عطف الخاص على العام، إظهاراً لشرفهما، وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه، كما قيل في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وحذف متعلق الأفعال الثلاثة، أي: يدعون، ويأمرون، وينهون لقصد التعميم، أي: كل من وقع منه سبب يقتضي ذلك، والإشارة في قوله: {وَأُوْلئِكَ} ترجع إلى الأمة باعتبار اتصافها بما ذكر بعدها {هُمُ المفلحون} أي: المختصون بالفلاح، وتعريف المفلحين للعهد، أو للحقيقة التي يعرفها كل أحد.
قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} هم: اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين، وقيل: هم المبتدعة من هذه الأمة، وقيل: الحرورية، والظاهر الأول. والبينات الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة لعدم الاختلاف. قيل: وهذا النهي عن التفرق، والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية، فالاختلاف فيها جائز، وما زال الصحابة، فمن بعدهم من التابعين، وتابعيهم مختلفين في أحكام الحوادث، وفيه نظر، فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجوداً وتخصيص بعض مسائل الدين بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب، فالمسائل الشرعية متساوية الاقدام في انتسابها إلى الشرع.
وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} منتصب بفعل مضمر أي: اذكر، وقيل: بما يدل عليه قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فإن تقديره استقر لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه، أي: يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة. ويقال إن ذلك عند قراءة الكتاب إذا قرأ المؤمن كتابه رأى حسناته، فاستبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر كتابه رأى سيئاته، فحزن واسودّ وجهه، والتنكير في وجوه للتكثير، أي: وجوه كثيرة.
وقرأ يحيى بن وثاب {تبيض} و{تسود} بكسر التاءين. وقرأ الزهري تبياض، وتسواد. قوله: {أَكْفَرْتُمْ} أي: فيقال لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ، والتعجيب من حالهم، وهذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإجمال، وقدم بيان حال الكافرين لكون المقام مقام تحذير وترهيب، قيل: هم أهل الكتاب، وقيل: المرتدون، وقيل: المنافقون، وقيل: المبتدعون.
قوله: {فَفِى رَحْمَةِ الله} أي: في جنته ودار كرامته، عبر عن ذلك بالرحمة إشارة إلى أن العمل لا يستقل بدخول صاحبه الجنة، بل لابد من الرحمة، ومنه حديث: «لن يدخل أحد الجنة بعمله» وهو في الصحيح. وقوله: {هُمْ فِيهَا خالدون} جملة استئنافية جواب سؤال مقدر. وتلك إشارة إلى ما تقدم من تعذيب الكافرين، وتنعيم المؤمنين.
وقوله: {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق} جملة حالية، وبالحق متعلق بمحذوف، أي: متلبسة بالحق، وهو العدل. وقوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} جملة تذييلية مقررة لمضمون ما قبلها، وفي توجه النفي إلى الإرادة الواقعة على النكرة دليل على أنه سبحانه لا يريد فرداً من أفراد الظلم الواقعة على فرد من أفراد العالم. والمراد بما في السموات، وما في الأرض مخلوقاته سبحانه، أي: له ذلك يتصرف فيه كيف يشاء، وعلى ما يريد، وعبر ب {ما} تغليباً لغير العقلاء على العقلاء لكثرتهم، أو لتنزيل العقلاء منزلة غيرهم. قال المهدوي: وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين، والكافرين، وأنه لا يريد ظلماً للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته، وغناه عن الظلم لكون ما في السموات، وما في الأرض في قبضته، وقيل: هو ابتداء كلام يتضمن البيان لعباده بأن جميع ما في السموات، وما في الأرض له حتى يسألوه، ويعبدوه، ولا يعبدوا غيره. وقوله: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} أي: لا إلى غيره، لا شركة، ولا استقلالاً.
وقد أخرج ابن مردويه، عن أبي جعفر الباقر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} قال: «الخير اتباع القرآن وسنتي».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف، فهو الإسلام، والنهي عن المنكر، فهو عبادة الأوثان، والشيطان. انتهى. وهو تخصيص بغير مخصص، فليس في لغة العرب، ولا في عرف الشرع ما يدل على ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حيان قال: {يَدْعُونَ إِلَى الخير} أي: الإسلام: {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف} بطاعة ربهم {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} عن معصية ربهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن الضحاك في الآية قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهم: الرواة.
انتهى. ولا أدري ما وجه هذا التخصيص، فالخطاب في هذه الآية، كالخطاب بسائر الأمور التي شرعها الله لعباده، وكلفهم بها. انتهى.
وأخرج أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة».
وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، عن معاوية، مرفوعاً نحوه، وزاد: «كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة».
وأخرج الحاكم، عن عبد الله بن عمرو، مرفوعاً نحوه أيضاً، وزاد: «كلها في النار إلا ملة واحدة،» فقيل له: ما الواحدة؟ قال: «ما أنا عليه اليوم، وأصحابي».
وأخرج ابن ماجه عن عوف بن مالك، مرفوعاً نحوه، وفيه: «فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة».
وأخرجه أحمد من حديث أنس، وفيه: «قيل يا رسول الله من تلك الفرقة؟ قال: الجماعة».
وقد وردت آيات، وأحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وفي الأمر بالكون في الجماعة، والنهي عن الفرقة.
وأخرج ابن أبي حاتم، والخطيب، عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} قال: تبيض وجوه أهل السنة، والجماعة، وتسود وجوه أهل البدع، والضلالة.
وأخرجه الخطيب، والديلمي، عن ابن عمر مرفوعاً وأخرجه أيضاً مرفوعاً أبو نصر السَّجْزي في الإبانة عن أبي سعيد.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي بن كعب في الآية قال: صاروا فرقتين يوم القيامة، يقال لمن اسود وجهه أكفرتم بعد إيمانكم؟ فهو الإيمان الذي كان في صلب آدم حيث كانوا أمة واحدة، وأما الذين ابيضت وجوههم فهم الذين استقاموا على إيمانهم، وأخلصوا له الدين فبيض الله وجوههم، وأدخلهم في رضوانه، وجنته، وقد روى غير ذلك.